فصل: ضوابط النقاش والتصويت وإطاره الأخلاقي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية



.ضوابط النقاش والتصويت وإطاره الأخلاقي:

مما لا شك فيه أن الحق تبارك وتعالى حينما شرع لعباده نظام الشورى فإنه شرع ذلك لحكم بالغة ومقاصد عظيمة نظراً لما تفرزه الآراء من فوائد جليلة ومصالح عظيمة تعود على الأمة بالنفع العظيم وعلى الدولة والمجتمع بالخير العميم في كثير من الحالات، ولو لم يكن في ذلك إلا امتثال أمر الله والاقتداء بهدي رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكفى، فضلاً عن كون الشورى والتصويت في مجالس التشريع نوع من أنواع الحوار المفتوح مع أهل الاختصاص الذي يمزج الأفكار ويطلعها على سداد الرأي المتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية ودستور الدولة المستمد منها ويحسم الخلاف عند الاقتراع والتصويت، وذلك ما يحث على الابتكار ويشجع على الاجتهاد، ويؤتي ثماراً طيبة تسعد به الأمة وتنتظم به شئونها.
وذلك ما يتطلب من عضو المجلس عند التصويت والاقتراع التزام الأمور التالية:
1- ألا يكون متعجلاً عند التصويت، بمعنى أنه لا يجوز له أن يصوت على أمر حتى يعرف حقيقة ما يصوت عليه، فالإلمام بالواقع يمثل أمراً شديد الأهمية، فكل قرار في أي مجال من مجالات الحياة السياسية أو المدنية أو الاقتصادية أو غير ذلك يصوّت عليه من قبل هذه المجالس لا بد وأن يكون قد استظهر المجلس فيه وجه الحق، فمهما بلغت كفاءة مصدر هذا القانون المصوت عليه ومكانته فإنه سيكون حتماً قراراً صائباً إذا كان قد عرف فيه وجه الحق وألم به، وقراراً خاطئاً إن هو أخطأ في معرفة الواقع الذي يعالجه، والقرآن الكريم يرشد إلى هذه الحقيقة وذلك في عداد توكيد ضرورة التأني والتثبت والتبين والبعد عن الاستعجال والارتجال في اتخاذ القرارات، ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: من الآية 6]، وهذا النص يفيد ضرورة الإلمام بالحقيقة والواقع إلماماً كاملاً قبل إصدار القرار في أي مجال من مجالات الحياة.
وذكر الثعالبي في تحفة الوزراء أن المشورة يستعان بها في تدابير السياسة، والسياسة نظام الدولة التي بها بقاء الدولة واستمرارها، فإذا ضعفت الآلة أو فسدت أدى ذلك إلى ضعف الدولة وفسادها. وهذه القاعدة تنطبق على كل القرارات في شتى مجالات الحياة، فضعف المجالس التشريعية والتعجل في إصدار القوانين دون إدراك عدم ملاءمتها للحياة يضعف الدولة ويؤدي إلى تهالكها وفسادها.
فالتأنّي والتثبت ودراسة الأمور من جميع جوانبها عند التصويت ووضع مواد القانون هو مما يرشد إليه العقل وتقتضيه فطنة الرجل الذكي، وقد جاء في الحديث: «استرشدوا العقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا» وجاء في منثور الحكم: (كل شيء يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى التجارب) ومعلوم أن الشورى لا تكون إلا مع أهل الخبرة والعلم بحقائق الأمور ولا يكون الإنسان من أهل الخبرة والعلم إلا إذا كان ملمّاً بواقع ذلك الأمر ومطّلعاً عليه وعلى حقيقته قبل إصداره، وقد أحسن الشاعر حيث يقول:
إذا كنت في حاجة مرسلاً ** فأرسل حكيماً ولا توصهِ

وإن باب أمر عليك التوى ** فشاور لبيباً ولا تعصه

ونص الحديث إلى أهله ** فإن الوثيقة في نصه

إذا المرء أضمر خوف الإله ** تبين ذلك في شخصه

وإن ناصح منك يوماً دنا ** فلا تنأى عنه ولا تعصه

ورحم الله المأمون فإنه أوصى ولده وعلمه بقوله: استشر ذوي التجريب والحيلة، فإنهم أعلم بمصادر الأمور وتقلبات الدهور، وأطيعوهم وتحملوهم فيما يغلظونه من قول أو يكشفونه من عيب لما ترجونه من حالة تصلح وفتق يرتق.
ولا شك أن هناك أهل اختصاص وخبرة يجب أن تُرجع إليهم لأن أمور التشريع مما تحتاج إلى إلمام ومعرفة، ولذلك فإنه ينبغي أن تعتمد مجالس التشريع في الشورى على أصحاب الاختصاص فلا يتعجل التصويت قبل أخذ رأيهم في المسائل المعروضة التي تحتاج إلى نوع من المعرفة والخبرة، ففي شئون الدين والأحكام يستشار علماء الدين، وفي شئون العمران والهندسة والتخطيط يستشار المهندسون، وفي شئون الصناعة والتجارة يستشار خبراء التجارة والصناعة، وفي شئون الزراعة والأمن يستشار خبراء الزراعة ورجال الأمن، وهلم جراً، غير أنه في كل الأحوال لا بد من توجيه الأنظار إلى أنه من الضرورة بمكان أن يكون علماء الشريعة الإسلامية قاسماً مشتركاً في كل هذه الشئون حتى لا يخرج المستشارون في تقرير السياسات المتنوعة عن حدود الشريعة.
2- الاستقلال في إبداء الرأي والتجرد من الهوى: معلوم أن الكلمة مسئولية في كل الأحوال فكيف إذا تعلق بإبدائها شأن عام من شئون الأمة، فإنه يجب حينئذ أن تكون مستقلة متوازنة مجردة للمصلحة العامة خالية من نزعات الهوى والتعصب، فقد عني الإسلام عناية فائقة بمنزلة الكلمة وأثرها سواءً كانت طيبة أم خبيثة. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ * وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}. فالكلمة الطيبة ثابتة عميقة الجذور في تربة صالحة ومنبت طيب، ولهذا فهي تنمو وترتفع حتى تبلغ السماء، وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أما الكلمة الخبيثة فهي مبتورة عن العقيدة والإيمان قليلة مضطربة لا قرار لها فهي سرعان ما تسقط، وهي لا تثمر إلا الشر والفرقة والقطيعة ولهذا كان الإنسان مسئولاً عن رأيه في كل الأحوال فما بالك في الرأي الذي يتعلق بشئون الأمة وإعطاء الرأي، وليس الرأي من أقل الأعمال جهداً وأدناها مشقة؛ لأنه لا ينبع عن عفوية في الأمور العامة وإنما ينبع عن علم وإيمان ومعرفة وهو مسئولية عظيمة وأمانة جسيمة يُسأل عنها الإنسان ديناً ودنيا. قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}. إذاً فإنه لا بد لسداد الرأي من سلامة القلب وصدق الإيمان والإخلاص في النية والتجرد من الهوى، فالاستقلال في الرأي سبيل إلى تحري الوجه السديد الخالي من المزاجية والعصبية والهوى، فالرأي إذا انبعث من الهوى صار ضاراً لأنه يُضيّق النظرة في الأمور ويفسدها وينحرف عن الطريق والمنهاج السوي، ولهذا أرشد الحق سبحانه وتعالى في محكم التنزيل إلى الابتعاد عن الهوى فقال جل شأنه: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} وقال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على ذم الهوى ومتابعته لأنه يفسد الرأي وقد جاء في كلام بعض الشعراء:
ضلال العقول في اتباع الهوى ** ولا حيلة في ضلال العقول

وقال الدكتور عز الدين التميمي إنه لا ينبغي أن يكون المستشار صاحب هوى لأن الرأي إذا نبع من الهوى وانبعث من المزاجية أصبح ضاراً.
قلت وهذا محط اتفاق، فمما لا شك فيه أن الهوى يفسد الرأي، ولأن الابتعاد عنه يقرب الإنسان من الصواب ويحرره من حب الشهوة والشهرة والمداهنة والمزاودة في الكلام، ويبعده عن كثرة المنازعة والمجادلة، وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على مدح الاستقلال في الرأي وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إذا أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا».
3- الشجاعة في إبداء الرأي: تعتبر الشجاعة في إبداء الرأي والتصريح به عند التصويت من الأمور المهمة، فقد جاء في الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان وعلى أن نقول بالحق أينما كُنّا لا نخاف في الله لومة لائم.
وجاء في حديث عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخصال من الخير أن لا أخاف في الله لومة لائم وأوصاني أن أقول الحق ولو كان مراً.
ومن هذين الحديثين نعلم وجوب قول الحق والجهر به في أدب واتزان لأن الله جل وعلا يقول: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
ومما لا شك فيه أن الجبن مع معرفة الحق والسكوت عليه يؤدي إلى ضياع الأمة وفقد مصالحها وتجرؤ أصحاب الباطل، وما يحدث في بعض المجالس النيابية خير شاهد، وقد أُثر عن عمر أنه قال: اللهم إني أشكو إليك ضعف المؤمن وجلد الفاجر. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»، فالشجاعة في إبداء الرأي في قوة وصرامة التماساً لرضوان الله هو مما يقرب الإنسان من الله سبحانه وتعالى وينفع الله به ويبعده عن المداهنة في قول الحق، لأن في المداهنة والتماس رضا الناس بسخط الله خطر داهم على الأمة، ولهذا جاء في الحديث: «من التمس محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده من الناس له ذامًّا» رواه ابن بلال عن عائشة مرفوعاً ورواه ابن العسكري عن عائشة وأورده القضاعي بلفظ: «من طلب محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده من الناس ذامًّا»، وفي لفظ: «من التمس رضا الناس بمعاصي الله وكله الله إليهم»، وفي رواية للعسكري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ومن التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عليه الناس».
4- لا يتحدث العضو إلا فيما يناقَش وألا يصوت بالموافقة أو الرفض إلا فيما يعلمه حقاً. ومما لا شك فيه أن التصويت أمانة فلا يتحدث الإنسان ويصوت إلا بعد أن يعلم القضية المطروحة للتصويت وملابستها بحيث يقوم بدراستها والحالة القائمة فيها فيكون على علم بالقضية وبظروفها وبواقعها لأنه سيسأل الإنسان عن ذلك ديناً ودنيا، لأن الإنسان مؤتمن على ما يقول، وقد جاء في الحديث: «المستشار مؤتمن» فهو أمين في دينه وأخلاقه، وأمين على الأمة وعلى المجتمع، وأمين على المرافق العامة، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» وفي حديث أبي سفيان المشهور أن مما كان يأمرهم به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «أد الأمانة»، وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة». قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الأمانة نزلت من السماء في جذر قلوب الرجال» ويكفي المؤمن أن يضع نصب عينيه قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} وقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا}، وقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
فالالتزام بالمحافظة على الأمانة من قبل أعضاء مجلس النواب فيما يطرحه الإنسان من كلام وآراء وفي عدم إفشاء الأسرار التي تؤدي إلى ضياع الأمر وإيجاد الأحقاد والتهيب من الصدع بالحق واجب شرعي، وقد جاء في كلام العباس بن عبدالمطلب لابنه عبدالله رضي الله عنهما: (يا بني إني أرى أمير المؤمنين يستخليك ويستشيرك ويقدمك على الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإني أوصيك بخلال أربع: لا تفشين له سراً، ولا يجربن عليك كذباً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطو عنه نصيحة)، بل أنه يجب على أعضاء المجالس النيابية عند التصويت على أمر أن يلتزموا فيه بمفهوم النصيحة فذلك واجب شرعي وأخلاقي، وقد وردت في ذلك أحاديث منها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الدين النصيحة». قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، وفي رواية عن جرير قال: بايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة فَلَقَّنَني: «فيما استطعت، والنصح لكل مسلم». وفي لفظ عن جرير أيضاً: بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
فالنصيحة مرتبة عالية ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد اشترطها على بعض الصحابة عند البيعة على الإسلام، وقد أخرج البخاري في باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» وقوله تعالى: {إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ} بسنده عن زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبدالله يقول يوم مات المغيرة بن شعبه، قام فحمد الله وأثنى عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير فإنما يأتيكم الآن ثم قال: استعفوا لأميركم فإنه كان يحب العفو ثم قال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلت أبايعك على الإسلام فشرط على النصح لكل مسلم فبايعته على هذا ورب هذا المسجد إني لناصح لكم ثم استغفر ونزل. وقد قال الإمام ابن الأثير الجزري أن النصيحة إرادة الخير للمنصوح له.. وأصل النصيحة في اللغة الخلوص، ومعنى النصيحة لله عز وجل صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته، والنصيحة لكتاب الله تعالى التصديق به والعمل بما فيه والنصيحة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم التصديق بنبوته وبذل الطاعة فيما أمر به ونهى عنه والنصيحة لأئمة المؤمنين أن يطيعهم في الحق ولا يرى الخروج عليهم بالسيف إن جاروا، والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم. ويمكن القول هنا بأن عضو مجلس الشورى في التشريع يجب عليه مناصحة الأمة في سن القانون الذي يتفق مع شريعة الله ويحفظ للأمة مصالحها.
5- أن يلتزم آداب الحديث وحسن البيان فيه، فالإنسان الذي يتكلم بكلام بيّن لا لغو فيه ولا لغط يكون محل تقدير، وقد ورد في كتاب الله {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}، و{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم وإذا أتى على قوم فسلّم عليهم ثلاثاً.
وجاء في حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفهمه كل من يسمعه.
كما أن للبلاغة والفصاحة أثر تجذب الأنظار وتشد الناس إلى تفهم الكلام، فحسن اختيار الكلمات يدل على رجحان العقل ومحاولة إفادة الآخرين بما ينفع الله به.
وقد ورد في الذكر الحكيم على لسان موسى عليه السلام: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي}، أما التقعر في الكلام وإظهار الاستهزاء بالآخرين فإنه يبعد الناس عن الصواب ويسبب كثيراً من المشاكل، وربما نزع الشيطان بين بني الإنسان بسبب كلمة، وإلى ذلك أرشد القرآن في قول الحق تبارك وتعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}، وفي السنة النبوية: «هلك المتنطعون»، قالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً، فاختيار الكلمات ووضوحها واتباع الأسلوب الذي يتناسب مع فهم أعضاء المجالس التشريعية هو السبيل الأمثل لأن كثيراً من الناس يؤولون الكلام أو يحملونه على غير محمله إذا شعروا أن في ذلك حطًّا من قدرهم أو من مكانتهم أو اشتمّوا منه تحقيرًا لآرائهم حتى ولو لم يكن الأمر كلام كذلك، ولكن لأن عبارته نابية ولذلك يقول الشاعر:
فكم من عائب قولاً سليماً ** وآفته من الفهم السقيم

فمنشأ الفهم السقيم أحياناً العبارات غير السليمة والتي تعطي أكثر من مفهوم يتأولها أصحاب هذا الفهم أو ذاك فيحملونها على غير محملها، كما أن حسن الإنصات والاستماع لمن يتحدث هو أمر يدل على أدب وخلق وذوق سليم، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع أمر جرير بن عبدالله رضي الله عنه أن يستنصت الناس، كما يجب أن يكون الكلام منضبطاً بضوابط الشرع وآدابه فيجتنب كل ما يخالف ذلك.
6- وجوب رد الرأي عند التنازع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ثم إلى أهل الاختصاص ضمن الضوابط التي نأتي على بيانها لوجود الأدلة الشرعية التي توجب الأخذ بهذه المبادئ والقواعد، فقد ورد في كتاب الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، والرد إلى الله يعني الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله يعني الرد إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وإلى صحيح سنته بعد وفاته، فلا يجوز ولا يحل لأحد من المسلمين سواءً كان عضواً في مجلس الشورى أو مجلس النواب أو غيرهما أن يقدم رأيه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
ومن المعلوم أن الإنسان حينما يتقيد في فكره وحديثه وآداب تصويته وفي نقاشه بالقرآن وبالسنة النبوية يصير كل ما يصدر عنه موافقاً لمنهج الله، لكن لا بد في مثل هذه الحالة من العلم والفقه حتى يستطيع الرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله، ثم يستشير المتخصصين في ذلك وفي جميع الفنون والعلوم أهل الثقة والفقه والعلم امتثالاً لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، وفي الأثر: «استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا»، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا حكيم إلا ذو تجربة»، فذلك كله مما يجعل عملية الشورى في مجالس التشريع تنجح وتؤدي الكلمة ثمارها الطيبة حين الإدلاء بها موزونة بميزان الشرع، لأن ميزان الشرع يبعد الإنسان عن التعصب في الرأي، فالتعصب في الرأي آفة ذميمة وخصلة رذيلة تعمي وتصم، فمن ظهر له الصواب على لسان غيره أو وجد كلام غيره هو الذي يتفق مع شرع الله وجب عليه أن يعود إليه فلا يغتر بآرائه، ولا يعجب بأقواله فإن الغرور كما قيل طيش يورث عمى البصيرة وهو يورث العجب، وإذا كان الإنسان معجباً برأيه لم يصغ إلى آراء الآخرين، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك العجب العجب»، وما علاج ذلك إلا أن يكون الإنسان متهماً رأيه بالقصور أبداً إلا أن يشهد برأيه دليل من كتاب الله أو سنة رسوله أو دليل عقلي جامع لشروط الأدلة وأن لا يكون ذلك لصاحب عجب أو غرور، والعجب بطبيعته يولد الكبر وحب الشهرة، والكبر داء يعصف بصاحبه ويقذف به في النار إن أصر واستمر عليه، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أكبه الله على وجهه في النار».
ناهيك عن كون العجب والكبر مما يولد في الإنسان الحسد ويدفعه إلى الرياء الذي هو الشرك الأصغر، أما الحسد فهو داء لا دواء له، ولهذا ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا»، وقال: «دب إليكم داء الأمم من قبلكم الحسد والبغضاء» وهو مما يولد في الإنسان مساوئ الأخلاق ويجعله يتشدق بالكلام ويتطاول به، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة مساوئكم أخلاقاً الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين فما المتفيهقون، قال: المتكبرون».
أما الرجل الذي يزن كلامه بميزان الشرع فهو لا بد أن يزن آراءه وأقواله بميزان الشرع وأن يبحث سداد الرأي فيما يطرحه من كلام، خاصة فيما يتعلق بالتشريع وإصلاح شئون الأمة امتثالاً لقول الحق تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً * إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
ومعلوم أن الرد إلى الكتاب والسنة فيما يختلف فيه يجب أن يكون من القواعد المسلم بها، لأن ذلك محكوم بنصوص قطعية ولأن الشورى في المجالس النيابية محصورة في الأمور الاجتهادية والدنيوية، فإنه يجب أن يتثبت أولاً من صحة الاستنباط وسلوك طريق الاجتهاد وعدم مخالفة ذلك لنص شرعي قاطع في كتاب الله وسنة رسوله لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} وامتثالاً لقول الحق جل وعلا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
هذه هي أهم الضوابط التي يجب أن يراعيها ويتمسك بها أعضاء المجالس التشريعية إذا ما أرادوا السير على هدي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.